arablog.org

“كيف سنعود إلى عدن وإلى أين؟”

مهاجر

قبل ستة أشهر تقريباً وصّلت أحد الأصدقاء -نيبالي الجنسية- إلى مطار الدمام وعندما جلسنا بانتظار الرحلة أبلغتنا شركة الطيران (القطرية) أن الرحلة ألغيت نتيجة لمشكلة حدثت في مطار (النيبال) حينها كانت الساعة السابعة صباحاً عدنا إلى الدمام وفي طريق العودة قلت لصديقي إيش هذه البلد اللي معكم ما فيها إلا مطار واحد ويتيم؟ طبعاً النيبال لا يوجد فيها إلا مطار يتيم آنذاك اكتظت مطارات العالم بالمسافرين إلى النيبال ويقال أن حوالي خمسة آلاف علقوا في دبي وحدها وهناك الآلاف غيرهم في مطارات أخرى.
رد صديقي على السؤال مقارناً حال بلده بحال اليمن قال: “نيبال سيمسم يمن”
كان هذا قبل الحرب الأخيرة على الجنوب التي شنتها عصابات الحوثي وصالح .. لم يرق ليّ ردّه فقلت له اليمن رغم الظروف ورغم الحروب التي تدور فيها إلا أنها مازالت تستقبل أبنائها وهناك أكثر من مطار وأكثر من منفذ بإمكانك العودة بأي وقت ومتى شئت .. كنت أقابل صديقي كل يوم أثناء تأجيل رحلته لمدة 20يوم وكلّما قابلته أتهكم على بلده التي ترفض أبنائها ودائماً ما أقول له “لو أنا نيبالي لانتحرت .. أي وطن هذه لا يوجد فيها إلا مطار واحد؟”

كنت أتساءل حينها أيعقل أن أقف يوماً من الأيام هكذا عاجزاً عن العودة إلى وطني وأهلي؟ من يعيش هذه الحالة ولم يخرج من الوطن تجده غير مبالي بهذا الوجع ولا يمكن أن يشعر بصاحبه ولكن لأن الحال يتشابه فقد كنتُ أرى مرارة الوجع في عيناي صديقي وهو بانتظار أن يفتح له وطنه المنفذ الوحيد للولوج إليه .. عاد المطار في النيبال لاستقبال الطائرات وغادر صديقي توب مع أول رحلة إلى وطنه إلا أنه بعد أيام معدودة من سفره أُغلقت مطارات اليمن ومنافذها وأصبحت اليمن غير قادرة على استقبال أبنائها وأصبح حالي يشبه حاله تلك الفترة وحال اليمن أسوأ بكثير من حال النيبال.

بعد تفكير عميق وانتظار دام أربعة أشهر  سنعود إلى الوطن من المنفذ الوحيد “منفذ الوديعة” .. سنعود مثقلين بأوجاع الغربة وأوجاع الوطن وما حل فيه من دمار وخراب وضحاياً كنّا نتابعها بقلق خلال الأشهر الفائتة بل نعيشها لحظة بلحظة ونتألم كثيراً بسببها .. سنعود ولا ندري كيف سيكون الحال بعد أن نجتاز سياجه الحدودي ولا ندري ماذا يتربص لنا في أحشائه !

عرف بعض الأصدقاء والأهل بسفري فأتصل عليّ بعضهم يحذرني مخاطر الطريق وكل واحد عنده رأي فيما يخص الطريق وأي طريق أسلك بعد اجتياز المنفذ الحدودي .. أحدهم يرشدني على طريق مارب-البيضاء-يافع-الحبيلين-الضالع وآخر له وجهة نظر أخرى يرى أن المرور عبر حضرموت-شبوة-ابين-عدن هو أفضل والأهم من هذا وذاك أن كل الطرق غير مضمونه والأحول تتقلب من ساعة إلى أخرى ولا أحد يعلم ما يحدث بعد لحظات لا شيء آمن ومضمون في الوطن إلى الآن .. قبل أيام قليلة أصدقاء عادوا إلى الوطن لتختطفهم مليشيات الحوثي وهم بطريق العودة وتودعهم السجن تهمتهم الوحيدة الاغتراب في السعودية قبلها أيضاً أحتجز أحد الأقرباء بنفس التهمة وإلى آخر من قصص مشابهة حدثت .. ومن سلم تقطعات عصابات الحوثي-صالح تلقفته ألغامهم التي زرعوها في أحشاء الوطن بالمناطق المحررة انتقاماً منها ومن أبنائها خصوصاً في عدن ولحج والضالع وأبين هذه الألغام تحصد عشرات الأرواح في أكثر من مكان يومياً.

في آخر اتصال مع أحد الأصدقاء الأعزاء تجاهلت كل هذه المخاطر وتظاهرت بالثقة حسب ما وعدته أننا سننزل في عدن
-قلت له أحجز لنا بأي فندق تراه مناسباً
-ردّ ساخراً: “من رجعت أنت عشان نحجز لك فندق؟ قد بحاح رئيس الحكومة بكله ما حصلش فندق عاد ما أنت!”
-قلت: ليش كذا؟
-قال: “الفنادق بعضها مدمرة على الآخر وبعضها ما تزال مليان نازحين”

صحيح أن الأوضاع في عدن ولجنوب عموماً أحسن حالاً مما كانت عليه في الأيام السابقة إلا أن أثار الدمار وما خلفته هذه الحرب ما يزال عائقاً أمام الناس وتحتاج لجهود كبيرة لتطبيع الأوضاع وعودة الحياة إلى طبيعتها .. واقع هذه الأيام يعيد إلى ذاكرتي سؤال طرحته امرأة عدنية كانت بصحبة أبنها بأحد مستشفيات المكلا بعد نزوحها إلى حضرموت اشتكت حالتها وما آلت إليه الأمور في عدن وكيف غادرت منزلها وهو يحترق بعد القصف عليه وأستشهد بعض أسرتها قالت:”حتى وإن أنتهت الحرب كيف سنعود إلى عدن وإلى أين وقد فقدنا كل ما نملك فيها وأحترق منزلنا؟”

موجع هذا السؤال “كيف سنعود إلى عدن وإلى أين؟”

رغم ذلك أشعر بالفرحة مع إدراكي العميق أن الرحلة إلى الوطن تعني رحلة إلى المجهول .. حتى الوطن نفسه يشبهني فهو يعيش فرحة الانتصارات ويمشي أيضاً إلى المجهول .. الواقع مليئ بالألغام والمشاكل ربما نجتازها بسلام وربما نفشل ..  لا أنا ولا الوطن يهمنا هذا المجهول ما دمنا سعداء بالذهاب إليه لا توجد أمامنا خيارات أخرى بديلة .. ربما أن يجد الوطن في المجهول مستقبل لأبنائه وأجد أنا فيه الوطن وربما لا..! من يدري؟ في المقابل لا شيء نخسره ولا شيء أسوأ من الحاضر!!

ها هو الآن صديقي النيبالي يقف أمامي بلحظات الوداع بعد أن عاد من إجازته ويسألني لماذا تأخرت وأنت قلت أنك ستسافر بأول رمضان؟ ويسألني متهكماً “مش قلت أن كان وطنك بدون مطار تعود إليه ستنتحر؟” بعدها ضحك ساخراً وقال “هكذا كل دنيا” أمس النيبال واليوم اليمن وغداً لا ندري أي بمن؟

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *